دارفور بين انحسار الدعم السريع وأزمة الحركات المسلحة: فرص جديدة للسلام المشروط

إن استثمار هذه اللحظة المفصلية قد يكون الطريق الوحيد لمنع دارفور من العودة إلى مربع الانقسام الدموي.

في خضم التحولات العسكرية والسياسية الجارية في السودان، يشهد إقليم دارفور مرحلة مفصلية مع انحسار مليشيا الدعم السريع في نطاقاتها القبلية التقليدية، وتلويح بعض الحركات المسلحة بالانسحاب من العملية السياسية ما لم يتم تجديد مقاعدها الوزارية قبل حل الحكومة الانتقالية. هذه المستجدات تفرض على الدولة والقوى الوطنية إعادة تقييم جذرية للاستراتيجيات الأمنية والسياسية والتنموية لتفادي انهيار الترتيبات الهشة واستثمار الفرص النادرة المتاحة لبناء سلام دائم وشامل. 

1. خلفية النزاع وتحول موازين القوى

بعد انتقال الصراع من الخرطوم إلى إقليم دارفور، تراجعت قوات الدعم السريع من مساحات المواجهة المباشرة، لتتركز في حواضنها القبلية الممتدة عبر الحدود مع تشاد وليبيا. يأتي هذا التراجع نتيجة الضغوط العسكرية والحصار غير المباشر الذي فرضه الجيش من جهة، وتزايد التوترات القبلية الداخلية من جهة أخرى، بالإضافة إلى تراجع الدعم الخارجي وصعوبات الإمداد اللوجستي.

في المقابل، تواجه الحركات المسلحة التي وقعت اتفاقية جوبا وضعًا دقيقًا ومعقدًا؛ إذ ترى أن تجميد مواقعها الوزارية أو تأخير تجديد حصتها في الحكومة المقبلة يهدد مصالحها السياسية المباشرة ومشروعيتها أمام قواعدها، مما يدفعها للتهديد بالانسحاب من العملية السلمية والعودة إلى موقع الحياد المسلح أو حتى المواجهة المباشرة.

 2. تحديات ومخاطر انحسار الدعم السريع

رغم أن انكفاء الدعم السريع ظاهريًا يقلص من قدراته الهجومية المباشرة، إلا أن تركه متمركزًا في حواضنه القبلية دون احتواء استراتيجي قد يعيد إنتاج نمط النزاعات المحلية والقبلية بصورة أكثر تعقيدًا. إذ يشكل هذا الانكفاء فرصة لبعض زعماء القبائل والقيادات المحلية لإعادة بناء تحالفات مسلحة منفصلة قد تخرج عن سيطرة المركز وتفاقم الانقسام الجغرافي والسياسي.

 المخاطر الكامنة تشمل:

إعادة التموضع التكتيكي: احتمالية أن يكون الانحسار مؤقتًا ضمن استراتيجية إعادة تجميع وتسليح عبر الشبكات الحدودية مع تشاد وليبيا.

ظهور مليشيات بديلة: تفكك البنية التنظيمية الموحدة قد يؤدي إلى ظهور مجموعات مسلحة متعددة أصغر حجمًا لكن أكثر صعوبة في التتبع والاحتواء.

تدويل النزاع:  استمرار الروابط الإقليمية قد يحول دارفور إلى ساحة للصراعات الإقليمية والتدخلات الخارجية.

 الاستراتيجية المطلوبة للاحتواء:

  • تفكيك الشبكات القبلية المسلحة عبر تقديم ضمانات أمنية وتنموية مجدية وملموسة للقبائل التي شكلت حاضنة اجتماعية للمليشيا، مع ربط ذلك ببرامج تنمية محلية عاجلة.
  • استقطاب العناصر الراغبة في التسوية من داخل المليشيا نفسها وتقديم برامج دمج وإعادة تأهيل حقيقية لإضعاف بنيتها التنظيمية من الداخل.
  • تجفيف مصادر التمويل والإمداد  التي تمر عبر الحدود من خلال تعزيز التعاون الأمني مع الدول المجاورة وتطوير آليات مراقبة حدودية فعالة.
  • تطوير نظام إنذار مبكر لرصد محاولات إعادة التجميع أو تشكيل تحالفات قبلية جديدة قبل تحولها إلى تهديدات أمنية.

 3. معضلة الحركات المسلحة: بين المشاركة المشروطة والانسحاب المدمر

يضيف تهديد الحركات المسلحة بوقف مشاركتها في الحكومة عند عدم تجديد وزاراتها تحديًا إضافيًا معقدًا يتطلب مقاربة متوازنة. إذ إن فقدان هذه القوى من المشهد التنفيذي قد يؤدي إلى تفاعلات خطيرة:

 التداعيات المحتملة:

  • إعادة تنشيط التوترات العسكرية في مناطق نفوذها التقليدية بدارفور وجنوب وشمال كردفان، مما يفتح جبهات متعددة في وقت تحتاج فيه الدولة لتركيز جهودها.
  • تفكك الترتيبات الأمنية لاتفاقية جوبا، وهو ما يعني عمليًا فتح جبهة جديدة قد يستفيد منها بقايا الدعم السريع أو أي أطراف أخرى تسعى لإدامة الفوضى واستغلال انتكاسة عملية السلام.
  • تراجع الثقة في العملية السياسية بين المجتمعات المحلية التي استثمرت في السلام، مما قد يدفع إلى عودة منطق القوة والسلاح كوسيلة لتحقيق المطالب.

 المقاربة المطلوبة:

  • تسوية سياسية عاجلة ومرنة تضمن لهذه الحركات الاحتفاظ بوزنها السياسي ضمن الحكومة الانتقالية، مع ربط ذلك بجدول زمني واضح ومحدد لإنجاز التزاماتها في نزع السلاح وإعادة الدمج.
  • إعادة هيكلة نموذج التمثيل بحيث لا تتحول المناصب الوزارية إلى أداة للابتزاز السياسي أو لتغذية النزعات الفصائلية والقبلية على حساب المصلحة الوطنية.
  • تطوير آليات مساءلة وتقييم دورية لضمان أن المشاركة في الحكومة مرتبطة بأداء حقيقي في خدمة السلام والاستقرار وليس مجرد مكاسب سياسية.

 4. الاستراتيجية الشاملة المقترحة: من إدارة النزاع إلى بناء السلام المستدام

أمام هذا الواقع المركب والمتشابك، يمكن صياغة استراتيجية متكاملة تتضمن أربعة مسارات مترابطة ومتكاملة:

المسار الأول: احتواء مليشيا الدعم السريع المنحسرة

  • الضغط الاستراتيجي المتواصل لتفكيك بنيتها القبلية والتنظيمية من خلال مزيج من الضغط العسكري المحدود والدبلوماسية المحلية والحوافز الاقتصادية.
  • تقديم بدائل أمنية وتنموية حقيقية  للمجتمعات المحلية التي قد تتحول إلى حواضن بديلة للصراع، مع التركيز على مشاريع البنية التحتية والخدمات الأساسية كرسائل ملموسة عن عوائد السلام.
  • تعزيز التعاون الحدودي مع تشاد وليبيا ومصر لمنع تدفق السلاح وقطع خطوط الإمداد والدعم اللوجستي للمليشيا.

 المسار الثاني: ضمان مشاركة الحركات المسلحة ضمن إطار وطني منضبط

  • تسريع مشاورات تجديد المواقع الوزارية  بشرط ربطها بجدول زمني واضح ومحدد لإكمال الترتيبات الأمنية وإعادة دمج المقاتلين في القوات النظامية أو البرامج المدنية.
  • إعادة هيكلة نموذج التمثيل السياسي  بحيث لا تتحول المناصب إلى أداة للابتزاز أو لتغذية الفصائلية، مع التركيز على الكفاءة والأداء في خدمة المناطق المتأثرة بالنزاع.
  • تطوير آليات رقابة ومساءلة دورية لضمان التزام جميع الأطراف بالاتفاقيات والتقدم الحقيقي في بناء السلام.

 المسار الثالث: البعد التنموي والاقتصادي

  • إطلاق برامج تنمية محلية عاجلة في المناطق المحررة والمستقرة لتعزيز ثقة المجتمعات في جدوى العملية السلمية وعوائدها الملموسة.
  • تطوير مشاريع اقتصادية عابرة للقبائل  تخلق مصالح مشتركة وتكسر دوائر الصراع التقليدية على الموارد الطبيعية والأراضي.
  • إعادة تأهيل البنية التحتية الأساسية (طرق، مدارس، مراكز صحية، شبكات مياه) كجسور ثقة عملية بين الدولة والمواطنين.
  • تنمية القطاعات الإنتاجية التقليدية (الزراعة، الرعي، التجارة) مع إدخال تقنيات حديثة ومستدامة.

 المسار الرابع: إطلاق عملية سياسية شاملة ومستدامة

  • فتح مسار حوار محلي موسع  يشمل الزعامات القبلية والإدارة الأهلية والمجتمع المدني وقادة الرأي لاحتواء التوترات القبلية والمجتمعية قبل أن تتحول إلى صراعات مسلحة.
  • تفعيل آليات العدالة الانتقالية  المنصوص عليها في اتفاقية جوبا، بما يشمل كشف الحقيقة والتعويضات وإعادة التأهيل والمصالحة.
  • إشراك الشركاء الإقليميين الدوليين  بصورة بناءة لدعم جهود التسوية وضبط الحدود التي تشكل منافذ لتهريب السلاح وتغذية المليشيات.
  • بناء آليات حل النزاعات المحلية التقليدية والحديثة لمعالجة الصراعات حول الموارد والأراضي قبل تصاعدها.

5. العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية

لا يمكن تحقيق سلام مستدام دون معالجة جذور النزاع وإرث الانتهاكات:

  • إطلاق عمليات مصالحة محلية حقيقية تسبق التسويات السياسية الكبرى وتشمل كافة المكونات المجتمعية.
  • ضمان مشاركة فعالة لضحايا النزاع في تصميم وتنفيذ برامج التعويض وإعادة التأهيل والعودة الطوعية.
  • تطوير برامج دعم نفسي واجتماعي  للمجتمعات المتضررة، خاصة النساء والأطفال والمسنين.
  • إنشاء صندوق إعادة الإعمار والتنمية  يركز على المناطق الأكثر تضررًا من النزاع.

6. التحديات المتوقعة والمخاطر المحتملة

 التحديات الداخلية:

  • ضعف القدرات التنفيذية للدولة  في تنفيذ الاتفاقيات والبرامج الطموحة، مما يتطلب بناء قدرات مؤسسية عاجلة.
  • مقاومة بعض النخب التقليدية  للتغييرات الهيكلية المطلوبة، خاصة في نظم الحكم المحلي وإدارة الموارد.
  • تحديات التمويل للبرامج التنموية والخدمية الطموحة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.

 المخاطر الإقليمية:

  • تعقيدات التدخلات الإقليمية من دول الجوار التي لها مصالح متضاربة في الملف السوداني.
  • انتشار السلاح الصغير  عبر الحدود واستمرار شبكات التهريب والتجارة غير المشروعة.
  • تأثير الأزمات في الدول المجاورة (ليبيا، تشاد، جمهورية أفريقيا الوسطى) على الاستقرار في دارفور. 

7. آليات التنفيذ والمتابعة

 إنشاء غرفة عمليات مركزية:

  • تنسيق شامل بين الأجهزة العسكرية والأمنية والسياسية والتنموية لضمان تكامل الجهود.
  • نظام معلومات متطور لرصد التطورات الأمنية والسياسية والاجتماعية في الوقت الفعلي.
  • آليات تقييم دورية لقياس التقدم في تحقيق أهداف الاستراتيجية وتعديل المسارات عند الضرورة.

شراكات استراتيجية:

  • مع المجتمع المدني لضمان مشاركة شعبية حقيقية في بناء السلام.
  • مع المنظمات الدولية  للحصول على الدعم التقني والمالي للبرامج التنموية.
  • مع الدول المجاورة لتأمين الحدود ومنع تدفق السلاح والمقاتلين. 

8. خاتمة: نافذة ضيقة لفرص السلام المستدام

إن تراجع الدعم السريع إلى نطاقاته القبلية، رغم ما يحمله من مخاطر جديدة ومعقدة، يمثل فرصة تاريخية نادرة لإعادة ترتيب موازين القوى وفق منطق الدولة والمؤسسات بدل سطوة المليشيات والقوة الغاشمة. غير أن هذه الفرصة الذهبية قد تتحول إلى تهديد وجودي للاستقرار إذا لم تُدار أزمة الحركات المسلحة بحكمة بالغة وسرعة مطلوبة.

المشهد اليوم يتطلب أكثر من مجرد حلول عسكرية تكتيكية أو مناورات سياسية قصيرة المدى؛ إنه يستدعي مشروعًا وطنيًا شاملاً ومتكاملاً لإغلاق منابع النزاع جذريًا، وبناء عقد اجتماعي جديد يربط الأطراف المحلية بالدولة كمصدر شرعية وحماية وخدمات حقيقي وفعال.

إن استثمار هذه اللحظة المفصلية بصورة صحيحة ومدروسة قد يكون الطريق الوحيد المتاح لمنع دارفور من العودة مرة أخرى إلى مربع الانقسام الدموي والحروب المدمرة، وتمهيد الطريق الصحيح لاستقرار حقيقي ومستدام يفتح الباب واسعًا أمام إعادة الإعمار الشاملة والمصالحة الوطنية العميقة والتنمية المستدامة التي يستحقها شعب دارفور بعد عقود من المعاناة والحرمان.

النجاح في دارفور سيكون نموذجًا يُحتذى به في بقية أقاليم السودان ومثالاً للمنطقة كلها في كيفية التحول من النزاع المسلح إلى السلام المستدام، بينما الفشل قد يعيد البلاد بأسرها إلى دوامة النزاعات المتعددة الأطراف والانهيار الشامل للدولة والمجتمع.

إرسال تعليق