الصراع السوداني: امتداد تاريخي وتحالفات تتكرر
دراسة في الجذور التاريخية للأزمة المعاصرة
مقدمة: التاريخ كمفتاح لفهم الحاضر
لا يمكن قراءة المشهد السوداني الراهن بمعزل عن تاريخه السياسي والاجتماعي، إذ أن الحرب الحالية ليست حادثًا طارئًا، بل تمثل استمرارًا لنمط من الصراعات المتجذرة منذ فترة الدولة المهدية، وخاصة في عهد الخليفة عبد الله التعايشي. هذا التحليل يسعى لكشف الخيوط الرابطة بين الماضي والحاضر، وفهم كيف أن البُنى التقليدية للصراع لا تزال تحكم المشهد السياسي السوداني رغم مرور أكثر من قرن على نشأتها.
الفصل الأول: الجذور التاريخية - من المهدية إلى اليوم
1.1 عهد التعايشي ونشأة الانقسام التاريخي
في أواخر القرن التاسع عشر، ومع صعود الخليفة عبد الله التعايشي إلى قمة السلطة عقب وفاة الإمام المهدي محمد أحمد عام 1885، تشكلت خارطة تحالفات وصراعات لا تزال أصداؤها تتكرر إلى اليوم. التعايشي، القادم من قبيلة التعايشة في دارفور، واجه مقاومة مستترة ومعلنة من النخب التقليدية في المناطق النيلية، والتي اعتبرت حكمه "غزوًا" من الهامش للمركز.
تمحورت تلك الحقبة حول توترات جوهرية بين المركز (خصوصًا قبائل النيل الأوسط والشمالي) والهامش (دارفور وكردفان)، وهو الانقسام نفسه الذي يُعاد إنتاجه حاليًا، وإنْ بوسائل وأدوات مختلفة. فالتعايشي اعتمد على قبائل الغرب كقاعدة سلطة، مما أثار مخاوف النخب النيلية من تهميشها، وهو ما دفعها لتشكيل تحالفات سرية ضد الحكم المهدوي.
1.2 سياسات التعايشي وردود الأفعال
اتبع التعايشي سياسات قاسية تجاه المعارضين، خاصة من النخب النيلية المتعلمة. فقد أعدم العديد من الأشراف والعلماء الذين اعتبرهم تهديدًا لسلطته، ونفى آخرين إلى دارفور. هذه السياسات عمقت الهوة بين "أهل الغرب" و"أهل الشرق"، وخلقت ذاكرة تاريخية من الظلم والانتقام المتبادل.
كما فرض التعايشي نظامًا إداريًا مركزيًا، عين فيه أقاربه وأفراد قبيلته في المناصب العليا، مما أثار استياء القبائل الأخرى التي شعرت بالإقصاء. هذا النمط من المحاباة القبلية والجهوية سيصبح لاحقًا سمة مميزة للحكم في السودان.
1.3 نهاية المهدية والدروس المؤجلة
انتهت دولة المهدية عام 1898 بهزيمة قاسية في معركة كرري أمام القوات الإنجليزية-المصرية، لكن الصراعات الداخلية التي نخرتها من الداخل لم تنته. بل إن الإدارة الاستعمارية الجديدة وجدت في هذه الانقسامات أداة مفيدة لحكم البلاد، فعمقتها من خلال سياسة "فرق تسد".
الفصل الثاني: إعادة إنتاج التاريخ في العصر الحديث
2.1 فشل المشاريع القومية المتعاقبة
المحاولات المتكررة لبناء مشاريع قومية موحدة في السودان - سواء كانت شيوعية مع نميري أو إسلامية مع البشير - اصطدمت جميعها بالانقسام البنيوي الذي خلفه عهد التعايشي. فكل مشروع قومي، مهما كانت أيديولوجيته، وجد نفسه مضطرًا للتعامل مع نفس الخريطة الجغرافية-السياسية للصراع.
الجيش السوداني، كمؤسسة، حاول أن يكون حاملاً لهذه المشاريع القومية المتعاقبة، لكنه في النهاية وجد نفسه جزءًا من معادلة الصراع وليس حلاً لها. وعلى الجانب الآخر، ظهرت قوات الدعم السريع كتعبير عن استمرار نمط "القوة الآتية من الأطراف" الذي بدأه التعايشي، لكن هذه المرة تحت مسميات ومبررات مختلفة.
2.2 دورة الصراع المتكررة: من التعايشي إلى "التعايشية الجدد"
ما يحدث اليوم هو إعادة إنتاج دقيقة لنفس دورة الصراع التي بدأت مع التعايشي. فقوات الدعم السريع، بقيادة حميدتي، تمثل محاولة جديدة لفرض "واقع التعايشية الجدد" على البلاد، وهو ما وضع النخب السودانية - بما فيها الشمالية - في موقع دفاعي مشابه لما حدث في أواخر القرن التاسع عشر.
هذا التكرار التاريخي يكشف أن المشكلة ليست في هيمنة منطقة معينة، بل في عجز النخبة السودانية الشاملة عن كسر هذه الدورة المدمرة. فالنخب الشمالية اليوم تجد نفسها في نفس الموقع الذي كانت فيه أيام التعايشي: مضطرة للدفاع عن وجودها ضد محاولة فرض نمط حكم قادم من الغرب.
2.3 الجغرافيا السياسية للصراع
خارطة السيطرة الحالية في الحرب الدائرة تعكس إلى حد كبير خارطة التحالفات التاريخية. فالدعم السريع تسيطر على معظم دارفور وأجزاء من كردفان، بينما يحتفظ الجيش بمعاقله في الشمال والشرق ووسط السودان. هذا التوزيع ليس مصادفة، بل انعكاس لعمق الانقسامات التاريخية.
الفصل الثالث: فشل الدولة الحديثة في التجاوز
3.1 الاستقلال ومسؤولية النخبة السودانية الشاملة
منذ الاستقلال عام 1956، شهد السودان محاولات متعددة لبناء مشاريع قومية موحدة، لكن هذه المحاولات أفشلتها النخبة السودانية ككل - بكل مكوناتها الجغرافية والأيديولوجية - التي فشلت في استيعاب الدرس التاريخي وتجاوز الانقسام المجتمعي العميق الذي خلفه حكم الخليفة عبد الله.
هذه النخبة، شمالية وجنوبية وشرقية وغربية، وجدت نفسها محاصرة في نفس دائرة الصراع التي رسمها التعايشي. فحتى النخب الشمالية التقليدية، التي يُظن أنها كانت المهيمنة، وجدت نفسها في نفس المربع مجددًا عندما حاول "التعايشية الجدد" فرض واقعهم من خلال قوات الدعم السريع.
3.2 المحاصصة كبديل عن الدولة
بدلاً من بناء مؤسسات دولة حديثة قائمة على المواطنة المتساوية، لجأت النخبة السودانية إلى نظام المحاصصة الجهوية والقبلية كآلية لإدارة التنوع. هذا النهج، رغم أنه وفر استقرارًا مؤقتًا، إلا أنه كرس الانقسامات وجعل الدولة أسيرة للتوازنات القبلية والجهوية.
فوزارة الدفاع، على سبيل المثال، ظلت تقليديًا من نصيب أبناء المناطق النيلية، بينما توزعت وزارات أخرى وفق اعتبارات جهوية. هذا النمط منع تكون هوية وطنية موحدة وأبقى السودان مجموعة من الولاءات المتنافسة.
3.3 المشاريع العسكرية القومية وانهيارها
الأنظمة العسكرية التي حكمت السودان جاءت بمشاريع قومية طموحة لكنها انهارت جميعها بفعل نفس العوامل البنيوية:
نظام نميري (1969-1985): جاء بمشروع شيوعي قومي يهدف لبناء دولة اشتراكية موحدة، لكن هذا المشروع هزته دارفور من خلال المقاومة المسلحة والتمردات المتكررة، مما اضطره للتحول نحو الإسلام السياسي في محاولة يائسة لاستعادة الشرعية.
نظام البشير (1989-2019): جاء بمشروع إسلامي قومي تحت شعار "الإنقاذ"، وحاول بناء دولة إسلامية موحدة. لكن هذا المشروع دُمر بعد الانشقاق الداخلي في الحركة الإسلامية وتصاعد الحروب في الأطراف، مما اضطره للاعتماد على ميليشيات دارفور (التي تطورت لاحقًا إلى قوات الدعم السريع) كآلية بقاء.
كل مشروع قومي واجه نفس المصير: التآكل من الداخل بسبب الانقسامات التي رسخها عهد التعايشي.
الفصل الرابع: الانفصالية كرد فعل تاريخي
4.1 صعود الخطاب الانفصالي
تصاعد الأصوات الانفصالية اليوم في بعض المناطق السودانية لا يمكن فصله عن هذا الإرث التاريخي. فالمناطق التي ترى في دارفور "مصدرًا للحروب والدمار" إنما تتحدث من موقع تاريخي ظل يرى في غرب السودان تهديدًا للسلطة المركزية والاستقرار.
هذا الخطاب، رغم خطورته، يعكس عمق الأزمة في الهوية الوطنية السودانية. فعندما تفشل الدولة في خلق رواية وطنية جامعة، تنكفئ المجتمعات على هوياتها الفرعية وتبدأ في التساؤل حول جدوى الوحدة.
4.2 الانفصال الجنوبي كسابقة
انفصال جنوب السودان عام 2011 لم يكن مجرد نتيجة لحرب أهلية طويلة، بل كان أيضًا نتيجة لفشل النخبة الشمالية في بناء مشروع وطني يستوعب التنوع السوداني. الجنوب، الذي عانى من التهميش والإقصاء، وجد في الانفصال حلاً لأزمة هويته ووجوده.
هذه السابقة تُستدعى اليوم من قبل مناطق أخرى تشعر بالتهميش أو التهديد. فإذا استطاع الجنوب تحقيق الانفصال، فلماذا لا تستطيع مناطق أخرى؟
4.3 مخاطر التفتيت
الخطر الحقيقي أن التفكك قد لا يتوقف عند حدود معينة. فالسودان، بتركيبته المعقدة، يحتوي على العديد من الخطوط المحتملة للانقسام: قبلية، عرقية، دينية، جهوية. وإذا انهار المركز، فقد تجد كل مجموعة نفسها مضطرة للبحث عن كيان منفصل لضمان بقائها.
الفصل الخامس: الأطراف الخارجية وإعادة إنتاج الصراع
5.1 القوى الإقليمية والمصالح المتضاربة
الصراع السوداني الحالي لا يمكن فهمه دون النظر إلى دور القوى الإقليمية والدولية. فكل من مصر والسعودية والإمارات وإثيوبيا وليبيا وتشاد لها مصالح ومخاوف في السودان، وهي تدعم أطرافًا مختلفة وفق هذه المصالح.
مصر، على سبيل المثال، تخشى من فوضى السودان وأثرها على أمنها القومي، خاصة فيما يتعلق بمياه النيل. بينما تدعم الإمارات قوات الدعم السريع ضمن استراتيجيتها الأوسع في المنطقة. هذا التدخل الخارجي يعمق الصراع ويجعل حله أكثر تعقيدًا.
5.2 إرث الحرب الباردة
السودان، مثل العديد من الدول الأفريقية، لا يزال يعاني من إرث الحرب الباردة، حين كانت القوى العظمى تدعم أطرافًا مختلفة في الصراعات الداخلية. هذا الإرث خلق ثقافة سياسية تعتمد على الدعم الخارجي أكثر من الشرعية الداخلية.
5.3 الموارد الطبيعية كعامل تعقيد
السودان يمتلك موارد طبيعية مهمة (البترول، الذهب، الأراضي الزراعية) تثير شهية القوى الخارجية. هذه الموارد، بدلاً من أن تكون مصدر وحدة وتنمية، تحولت إلى مصدر صراع وتدخل خارجي.
الفصل السادس: التاريخ كعبء لم يُحل
6.1 استدعاء التاريخ للانتقام
الخطورة في المشهد الحالي أن التاريخ يُستدعى لا كدرس، بل كعبء، تُستعاد فيه التحالفات القديمة لا لبناء المستقبل، بل لتصفية الحسابات. كل طرف يستدعي من التاريخ ما يبرر موقفه ويشيطن الطرف الآخر.
هذا الاستدعاء الانتقائي للتاريخ يحول دون إمكانية المصالحة أو التسامح. فعندما يُصور الصراع الحالي كامتداد لصراع تاريخي بين "الخير والشر"، تصبح التسوية أو التفاوض خيانة للأسلاف.
6.2 غياب المثقفين والمفكرين
في مثل هذه اللحظات التاريخية الحرجة، عادة ما تلعب النخب المثقفة دورًا في إعادة قراءة التاريخ وتقديم رؤى جديدة للمستقبل. لكن النخبة المثقفة السودانية، المنقسمة بدورها على أسس جهوية وأيديولوجية، فشلت في تقديم مشروع فكري بديل.
6.3 إعلام الكراهية
وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي تلعب دورًا مدمرًا في تعميق الانقسامات من خلال نشر خطاب الكراهية والتحريض. كل طرف يملك آلته الإعلامية التي تصور الطرف الآخر كعدو تاريخي لا يمكن التعايش معه.
الفصل السابع: سيناريوهات المستقبل
7.1 سيناريو الانهيار الكامل
إذا استمر النمط الحالي، فالسودان يتجه نحو انهيار كامل يشبه ما حدث في الصومال أو ليبيا. في هذا السيناريو، ستتحول البلاد إلى مناطق نفوذ لمجموعات مسلحة مختلفة، مع تدخل خارجي واسع لحماية المصالح الإقليمية والدولية.
7.2 سيناريو التقسيم
سيناريو آخر محتمل هو تقسيم السودان إلى دويلات أصغر على أسس جهوية أو قبلية. هذا السيناريو، رغم أنه قد يوفر استقرارًا مؤقتًا، إلا أنه سيخلق مشاكل جديدة متعلقة بالحدود والموارد والأقليات.
7.3 سيناريو التدخل الخارجي
قد تضطر القوى الخارجية، خاصة الإقليمية، للتدخل المباشر لمنع انهيار كامل للسودان وأثره على استقرار المنطقة. هذا التدخل قد يؤدي إلى استقرار مؤقت، لكنه سيكون على حساب السيادة الوطنية.
7.4 سيناريو البناء الجديد
السيناريو الأكثر تفاؤلاً، وإن كان الأقل احتمالاً في الظروف الحالية، هو نجاح السودانيين في التعلم من تاريخهم وبناء نظام جديد يقوم على العدالة والمساواة والمواطنة الحقيقية. هذا يتطلب قيادة استثنائية وإرادة شعبية قوية.
الفصل الثامن: الدروس والتوصيات
8.1 ضرورة المراجعة التاريخية
لا يمكن للسودان التقدم دون مراجعة جادة وصادقة لتاريخه. هذه المراجعة يجب أن تشمل كل الفترات والأطراف، وأن تهدف إلى فهم أسباب الصراعات وليس تبرير مواقف معينة.
8.2 بناء هوية وطنية جامعة
أولوية عليا يجب أن تُعطى لبناء هوية سودانية جامعة تحتضن التنوع دون أن تلغيه. هذا يتطلب إعادة كتابة المناهج التعليمية وتطوير خطاب ثقافي وإعلامي جديد.
8.3 إصلاح المؤسسات
يجب إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مهنية وليس جهوية أو قبلية. الجيش، على وجه الخصوص، يجب أن يكون مؤسسة وطنية تمثل كل السودانيين وليس فئة معينة.
8.4 العدالة الانتقالية
لا يمكن تحقيق مصالحة حقيقية دون عدالة انتقالية تتعامل مع انتهاكات الماضي وتوفر التعويض للضحايا. هذا ضروري لكسر دورة الانتقام والثأر.
8.5 التنمية المتوازنة
يجب معالجة التفاوت التنموي بين المناطق المختلفة، والذي كان أحد أهم أسباب الصراعات. هذا يتطلب استراتيجية تنموية شاملة تركز على المناطق المهمشة.
خلاصة: مسؤولية جماعية لنخبة فاشلة
ما يجري في السودان اليوم هو لحظة انفجار طويلة الأمد، وليست بداية نزاع جديد. خارطة الحرب الحالية هي ظل ممتد لصراع بدأ منذ أكثر من قرن، حين فشلت النخبة السودانية - بكل مكوناتها الجغرافية والأيديولوجية - في حسم سؤال جوهري: كيف يمكن بناء سودان موحد يتجاوز إرث التعايشي؟
هذا الفشل مسؤولية جماعية لا يمكن إلقاؤها على منطقة أو فئة بعينها. فالنخب الشمالية اليوم تجد نفسها في نفس المربع الذي وُضعت فيه منذ قرن، مضطرة للتعامل مع محاولة جديدة لفرض واقع "التعايشية الجدد". والنخب الغربية تجد نفسها تعيد نفس المحاولة التي فشلت تاريخيًا. والنخبة السودانية ككل عاجزة عن تقديم بديل حقيقي لهذه الدورة المدمرة.
الإجابة على سؤال "من يحق له حكم السودان؟" تتطلب تجاوز النظرة الضيقة التي تحصر الصراع في شخصيات أو مناطق، والنظر إليه كفشل جماعي في بناء مشروع وطني حقيقي. فقط من خلال إقرار هذه المسؤولية الجماعية يمكن التفكير في حلول جذرية وليس مجرد ترقيعات مؤقتة.
السودان اليوم يقف على مفترق طرق: إما أن يستمر في إعادة إنتاج صراعاته التاريخية حتى الانهيار الكامل، أو أن يجد الشجاعة والحكمة للقطع مع هذا الماضي وبناء مستقبل جديد. الخيار الثاني يتطلب تضحيات كبيرة من كل الأطراف، لكنه الخيار الوحيد الذي يضمن بقاء السودان موحدًا ومستقرًا.
ما دام السودانيون يصرون على استدعاء التاريخ كسلاح وليس كدرس، فسيبقون محكومين بإعادة إنتاج مآسيه. والتاريخ، كما يقول المؤرخون، لا يعيد نفسه حرفيًا، لكنه يعيد أنماطه وبُناه العميقة. وهذا تماما ما يحدث في السودان اليوم.